وجدت بذرة الخوارج في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان منبع الخوارج وأساس فكرهم -في الجملة- الذي انبثق منه: هو الغلو والاعتراض على السنة بالرأي، لا من جهة الرد، ولكن من جهة الغلو؛ لأن هناك من يعترض على السنة من جهة الرد لشهوة أو لهوى، وهناك من يعترض على السنة من جهة الغلو، فيرى أن السنة لا تكفي لما يريده من تدينه الموهوم، وأول من أتى ببدعة الخوارج أو وضع بذرة الخوارج هو: ذو الخويصرة، الذي أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن قسم الغنائم يوم حنين، فعجب هذا الرجل كيف يعطي الرسول صلى الله عليه وسلم الأقرع وعيينة وأمثالهم من زعماء بني تميم وغطفان -ممن هم حديثو عهد بالإسلام- المئات من الإبل والآلاف من الشاء، ويمنع المهاجرين والأنصار وهم أهل السابقة والفضل في الإسلام! فقال -قبحه الله- كلمة عظيمة لو مزجت بماء البحر لمزجته قال: (اعدل يا محمد!) أو قال: (إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله)، فاعترض على النبي صلى الله عليه وسلم في قسمته وسنته -من باب الغلو، وأنه يريد العدل، فقد رأى أن هذا ليس عدلاً- فغضب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك؛ إذ كيف يعترض عليه صلى الله عليه وسلم وهو الذي لا ينطق عن الهوى؟!
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {ويلك! فمن يعدل إن لم أعدل؟!}، من يعدل إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جائراً أو لا يبتغي وجه الله؟! من الذي سيعدل بعده صلى الله عليه وسلم؟! ومن ذا الذي يبتغي وجه الله أكثر منه صلى الله عليه وسلم؟!
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في رواية أخرى : {يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم}، فكانت هذه إشارة إلى الخوارج الذين ظهروا فيما بعد، والذين سلكوا نفس الاتجاه وهو الغلو الذي لا أساس له من السنة، والذي لا يمكن أن يكون موجوداً في الواقع، وإنما هي نظرة مثالية جانحة عن الحق وبعيدة عن القصد السوي في الأمور، ولهذا لما ناظرهم ابن عباس قال: ما تنقمون على علي؟ ولماذا تخرجون عن إمرة أمير المؤمنين، وتنفصلون عن جماعة المسلمين؟ قالوا: نريد إماماً مثل عمر، إن جئتمونا بمثل عمر بايعناه وأمَّرناه ودخلنا في طاعته، فـالخوارج يرون أن سيرة الشيخين هي السيرة المحمودة فقط، أما عثمان وعلي، فيرون أنهما قد انحرفا وضلا، بل كفرا وارتدا، ويطالبون بمثل عمر، وأنى لهم بمثل عمر! مع أنه ليس في الأمة آنذاك أفضل من علي رضي الله عنه بإجماع الأمة، إلا ما كان من خلاف من أهل الشام، فلما لم يجدوا مثل عمر، قالوا: إذاً لا نبايع، فاختاروا عبد الله بن وهب الراسبي ليكون لهم كما كان عمر رضي الله عنه، وليس هو بصحابي، ولا له سابقة، ولا فضل، بل هو كما قال ابن حزم : (هو أعرابي بوال على عقبيه)، هذا الذي بايعوه ورضوه إماماً! وهكذا الغلو يؤدي -وإن كان أصله الحرص على مزيد من التدين والتقوى- إلى الإجحاف والانحراف، وإلى ما لا يليق بأهل القصد فضلاً عمن فوقهم.